قعدة مع النفس وقط برتقالي و3 دورس في الحياة هذه السنة – 2024
قضيت سنة فيها تنقل كثير، وانتقال كبير بلا شك بين أكثر من مشروع ومهمة ونشاط، بحثًا عن الإنجاز والنجاح، وكان جزء كبير منها إصلاحًا قادني لاكتساب عادة التأمل الذاتي لما قضيت من وقت منقبًا في ما تجمّع عندي من سنوات عشتها في هذه الحياة، وخرجت والحمد لله بدروسٍ اختلف نفعها وتأثيرها، ثلاثة منها كان لها أثر واضح ونفع متواصل.
– قعدة مع النفس (التأمل الذاتي)
أكثرُ ما تعلّمت هذه السنة نفعًا (2024) إن كُنت أعطي عاداتي تيجانا لألبستُ هذه تاجَ هذه السنة، ولو رتبتها في قائمة مِن الأهم، سأضع التأمل الذاتي على رأسها.
أفضتُ الحديث عن التأمل الذاتي في مقالٍ سابق بعدما أفاضني الاعتيادُ عليه منافعًا، لذا من الطبيعي أنه عندما عُدت لتقييم هذه السنة وإنجازاتها، وجدت التأمل الذاتي أنفعها، وجزء من هذا المقال وما أقوم به هو تأمل ذاتي بلا شك. التأمل الذاتي كما وصفته في المقال المعني هو قعدة (من قعود) مع النفس، هي عملية مُتحكم بها تسمحَ لك باسترجاع ذكرى أو موقف أو فعل لغرض تفحصه أو تحليله.
كُلنا نمارس التأمل الذاتي بشكلٍ عشوائي، غالبا مصحوبًا بالكثير من اللوم وجلد الذات، وكثيرًا ما نُغيب جوانب التحليل فتُفقَد الاستفادة، لهذا مهم أنْ تعتاد عادة التأمل الذاتي بالشكل الصحيح، ومُجددا، أوجهك لمقالي حيث ذكرت الفائدة والطريقة والهدف، كما أحدثه بشكل مستمر لأحسنه وأزيد عليه بما أنّ العادة مازالت جديدة.
أعتقدُ أنني أحب هذه العادة لما فيها من منفعة تقبل الذات وتعلم الإصغاء إليها دُون جلد أو ملامة، فيها شيء من الرحمة بالأنفس والصدق في البحث عن العيوب لإصلاحها والاستفادة منها، لكن أعتقد أنّ أنفع ما لقيتُ من التأمل الذاتي كان معرفة أعمق لدخائلي وإيجاد روابط مباشرة بين ما أقوم به ومأ أشعر به، هي عادة تعيدني كل مرة للطريق، ليس الصائب بالضرورة، ولكن لطريق فيه ما أحب وما يعطيني شعورا بالرضا، وشعورًا بالانتماء.
الجميل في هذه العادة، أنّك تبدؤوها غالبا بسؤال، إن عرفت إجابته فذلك جيد، بتلك الإجابة تكتسب عادة أخرى كثيرًا ما تحدث عنها، وهي اكتساب الوضوح، وإنْ لم تعرف الإجابة، فمُجددا، تكتسب الوضوح بخصوص ما لا تعرف فيأتي دورُ البحث والقراءة ومصاحبة من تجد عندهم قدرة على إعطائك الإجابة.
– قط برتقالي 🐱 ونتائج لا خطية
الذي أوصلني هنا قط، بل تحديدًا قط برتقالي، وقد تبعتُ ذيل نظرية أن القطط البرتقالية أكثر تعلقًا بمالكيها وأنّها تمتلك شخصية أهدأ، فأوصلني بحثي لمنشور على موقع ريديت/Reddit الشهير حيث كتب أحدهم: “كل مالك لقطٍ سيخبرك أنّك تمتلك قطا حتّى تمتلك قطين حتى وإن كان برتقاليًا، عندها ستمتلك خمسة قطط”. وهي شبيهة جدًا بما يقال: “إن كان عندك طفل واحد فعندك طفل واحد، لكن إن كان عندك طفلان ففي الحقيقة عندك خمسة“.
لأوضح: كلا المثالين مرتبطان بمقدار الجهد الذي يتطلبه الاعتناء بقط (برتقالي أو غيره) أو طفل (برتقالي أو غيره 😜) حيثُ لا يتضاعف المجهود واستنزاف الموارد ضرب اثنين عند الاعتناء بقطين أو طفلين.
مربك صحيح؟ هذا قانون من القوانين التي تشترك فيها الرياضيات والاقتصاد وتربية القطط والأطفال على ما يبدو، هنا، سآخذه من حيث المبدأ والمفهوم وليس قانونا مشتركًا. المبدأ يصف الحالة التي تختلف فيها النتائج اختلافًا جذريا بتغير خطي في المُسببات، تتغير المخرجات كثيرًا بتغيير المدخلات حتى وإن كانت نفسها، إن كانت صغيرة أو مُتغيرات بسيطة، لكنها تتغير بشكل غير خطي وبالتالي يصعب حساب أو تقدير نتائجها بشكلٍ صحيح.
ما معناه، إن كنت تعتني بطفل لساعتين يوميا وتصرف عليه 100 دولار شهريا، إضافة طفل واحد للمعادلة لو كانت خطية، معناه أن ساعتين ضرب إثنين و100 ضرب إثنين تعني 4 ساعات و200 دولار، لكن بما أن القانون غير خطي، التأثير هنا قد يجعل المسألة مختلفة ويصعب حساب نتائجها.
وصف المفهوم بالقانون ليشمل كل شيء من العلوم بما فيها الاقتصاد تسطيح للمبادئ العلمية التي تقوم عليها قوانين معروفة تشرح هذا المبدأ حسب المجال هو وصف ناقص، الدرس هنا بالفكرة لا بالقانون الفعلي، والأمثلة توضيحية، قد يتشابك الوصف ليصف نظريات أو مبادئا مقاربة أو شبيهة كتأثير الفراشة أو نظرية الفوضى، شرح الدرس بأمثلته وما تعلمته يُيسر فهم المسألة من منظور تطبيقه في الحياة.
مثال أوضح يصف المدخلات البسيطة والمخرجات المعقدة والكبيرة عندما تكون لا خطية، إن كان عندك ثقب صغير في حوض الحمام، لو كان يفرغ بمعدل لتر كل يومين، لو زدت مساحة الثقب ضعفا، فالافتراض أن الحوض سيفرغ بشكل أسرع بمعدل لترين كل يومين، إلّا أن القانون اللا خطي، يجعل تأثير الضعف في المدخلات وهي حجم الثقب، يؤثر بشكلٍ كبير على سرعة الماء، ما قد يفرغ الحوض في ساعة ربما، وذلك بسبب تغير سرعة التدفق والضغط وعوامل أخرى، لاحظ أن المُدخلات وكل شيء نفسه، لكن المخرجات تغيرت.
هذا المبدأ، يجعلك تنتبه للمشاريع التي تستلم وتعمل عليها، عدد عاداتك، حتّى إن تشابهت، تأثير كل واحدة على الأخرى قد يستنزف الجهود والموارد بشكلٍ أسرع، وقد لاحظت ذلك عندما أصبحتُ أعمل بكفاءة تجعلني أنهي عملي في عدد ساعات أقل يصل 6، فحسبت ما يستلزم مني إنهاء بعض أجزائه وحاولت أن أزيدها ظنا مني أن الزيادة ستأخذ عدد ساعات شبيه، لأكتشف أن الزيادة حتى وإن حسبتها، أعطت نتيجة مختلفة جدا، حيث تأثر العمل الأصلي وزادت ساعات عملي عليه، وأخذ العمل الإضافي وقتا أطولا لأنّ قدراتي الذهنية استنزفت.
الآن اعمل على كل شيء بنفس المبدأ، حتى عندما تعتقد أنك قادر على قياس التأثير وحساب النتائج، لأنك تحسب ذلك بناء على ما عندك من بيانات، تغيير بسيط قد يكون له أثر كبير، وستلتمس ذلك بشكلٍ أكيد عندما تتخذ قرارات بسيطة، تؤثر على نتائج قرارات اتخذها قبلها.
– من المماطلة والتركيز إلى المماطلة والتركيز كذلك
لسنوات، استخدمت آلية تنظيم الوقت بومودورو لتنظيم وقتي والمهام التي أعمل عليها، حيثُ أقسّمها وأقسم ساعات عملي لدورات قصيرة بينها فترة استراحة، حيث تتوالى أربع دورات عمل تتخللها أربع دورات استراحة، الأخيرة منها طويلة، وقد أفادني ذلك تحديدًا مع المهام الرتيبة والتي لا تتطلب سوى تركيز محدود، أو المرهقة التي أفقد تركيزي عليها بعد فترة وأحتاج للطاقة أن تتجدد.
رغم ذلك، كنت في كل مرة أشعر بعيب في الآلية عندما أستخدمها على مشاريع أو مهامٍ أستمتع بها أو أجد لذة في إنجازها حتى وإن كانت طويلة ومنها الكتابة، أو أشعر بعيب في نفسي للتراخي والتكاسل الذي أشعر به وأنا أعمل على مهام أخرى فأماطل بدأها.
بعد سنين، بدأت ألاحظ أنّ كل تغيير أحدثه في نفسي لإصلاح ما أراه عيبا عند التكاسل والتراخي، لا يصلح شيئًا إلا إن غيرت ما أعمل عليه، ولا يكون هذا التكاسل مشكلة إلّا إن صرفت المجهود في شيء دون فائدة أو خارج قائمة مهامي، فالدماغ يبحث عن المكافآت حيثما وجدها، حتى وإن كانت زيارة لموقع تواصل أو لصندوق الواردات على البريد.
ليس لأنّ الآلية تعمل فهي تعمل دائما، صحيح أنه من السهل ترويضها حسب اللازم وذلك ما كنت أقوم به على أي حال، وليس العيب في التكاسل والمماطلة دائما لأن الشخص غير قادر على السيطرة على بحث دماغه المنفلت أحيانا لجرعات دوبامين متكررة، المسألة تكون أحيانا أن العمل في حد ذاته يولد شعورا دون غيره، فصرت أبحث عن استخدام دورات أقصر للعمل الذي يُشعرني بالتكاسل ودورات عمل أطول للذي يفعل العكس، بشرط أن تكون تأدية العملين مهمة.
أعتقد أني خسرت ساعات طويلة من العمل وأنا أضغط على نفسي مرهقا إياها ومسببا حالة توتر كبيرة بإجبارها على العمل لمدة معينة على أنشطة رتيبة مملة، خاصة للتي يسهل التركيز عليها والعودة إليها وهذه مسألة مهمة جدا سأتحدث عنها بعد هذا، كما خسرت ساعات طويلة لم أصل فيها درجة عالية من التركيز، لأنّ الذي يحكم العمل ليس الدماغ ولكن مؤقت الساعة.
المسألة المهمة متعلقة ببساطة بقدرات الدماغ، تختلف من شخص لآخر بلا شك، وكلما عودت دماغك على التركيز على نشاط معين زادت فترات تركيزه عليه، لكن الدماغ يحتاج لفترة تركيز تتطلب في بدايتها مجهودا منك، تخيل كأنك تلبس فرسا لجامه وتجره لتوجهه الطريق وبعدها ترخيه، تخيل الآن أنك بعدما يسير الفرس تنزل عنه وتزيل اللجام وتعيد العملية.
هذا للأسف ما يحصل، إن كان الدماغ يأخذ وقتًا لدخول حالة تركيز، ما يعني أنه بوضع مؤقت، قد تغادر النشاط وأنت لم تدخل حالة التركيز القصوى هذه لأنك توقفت بسبب المؤقت، أو أنك ببساطة عندما تدخلها تكسر التركيز فتحتاج لنفس الوقت للعودة إليها، فيكون عدد ما عملت إليه وأنت في أقصى حالات تركيزك، بضع دقائق فقط من عدد الساعات التي اشتغلتها.
📌 تُشير بعض الدراسات أن الدماغ يحتاج لما يتجاوز 20 دقيقة للعودة للتركيز على نشاط بعد قطعه، وأنه يعمل وفق دورات يزيد فيها التركيز أو ينقص، قطع هذه الدورات بشكلٍ متكرر يقلل التركيز بشكلٍ كبير.
دراسة من جامعة كاليفورنيا – عبر lifehacker.
سترى أنّ المسألة مع المهام الرتيبة المرهقة التي تتماطل بخصوصها لا يختلف عن التي تستمتع بها ولا تشعر بالوقت أثناء إنجازها، وبينهما كل المهام الأخرى بلا شك، كلها تتشارك في الوقت الذي تحتاج لدخول حالة من التركيز، كم يحتاج منك ذلك وكم تمضي وسطها، يختلف من نشاط لآخر.
شخصيًا، مازلت أستخدم البومودورو لأني أقيس بها أيضًا عدد الساعات التي تتطلب مني بعض الأنشطة، الفرق الآن أنه إن شعرت أني دخلت حالة تركيز قصوى، أواصل دون توقف فيدخل وقت الاستراحة في العمل، أما إن شعرت أني أماطل، فأضع المؤقت لأجبر نفسي على العمل حتّى انقضاء دورة البومودورو الأولى على الأقل.
اختبرت أيضًا ساعات مختلفة من اليوم لتأدية وظائف مُعينة، ووجدت أن استفتاح اليوم بنشاط يدفعني لأكون في أقصى حالات تركيزي، مؤثر مباشر على كل المهام الأخرى، غالبا لأن بدأ اليوم بشكل رتيب يزيد الشعور بالملل ويولد توترا إضافيا، شعور الإجبار ذلك مُستهلِك، ما يعني كلما زادت ساعات عملك، زادت مماطلتك وتوترك واستنزفت طاقة كبيرة.
هذه كانت أهم 3 دروس تعلمت هذه السنة، الأولى كان لها تأثير كبير للغاية وستؤطر الكثير من قراراتي في الحياة للمستقبل، الثانية كانت سببًا في مراجعة بعض ما أقوم به والانتباه للحكم على الوقت أو الموارد أو المجهود الذي تأخذه بعض الأنشطة أو المشاريع بناء على أخرى، أمّا الثالثة، فقادتني للتنازل عن بعض ما أقوم به لشعور مستمر بالملل والإرهاق، وذلك بعد التأكد أنّ العيب في العمل لا في تشتت انتباهي أو ضعف تركيزي طبعا، كما استبدلت نموذج عملي لأكون منتجًا بشكلٍ أفضل وأبلغ أقصى درجات التركيز كلما استطعت ذلك.