‫الرئيسية‬ مراجعات كتب مما قرأت | المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك
مراجعات كتب - 18/09/2024

مما قرأت | المرايا المحدبة: من البنيوية إلى التفكيك

تأليف: عبد العزيز حمودة

يبدأ د. عبد العزيز كتابه بتناول الحداثة العربية كانعكاس لظلال الحداثة الغربية، وما ظهر عنها من مشاكل تاريخية المصطلح وصلاحية تداوله في الثقافة العربية، ذاك أن الحداثة الغربية كانت ولازالت نتاج مشوار فلسفي تاريخي فكري لدى أوروبا مهَّد الطريق لظهور العديد من المصطلحات اللغوية الجديدة، والتيارات الفلسفية المتطورة باستمرار، تلك التي لم يستطع المناخ العربي أن يتقبلها أو يفسح لها مكاناً ضمن ثقافته، فاختلاف الأمزجة الثقافية المولّدة للتيارات الفلسفية جعل من التفكيكية والبنيوية مثلاً تيارات غريبة على الذهن والتجربة العربية، حيث تطلعنا التركيبة الثقافية للحداثة لكل من التجربة الأمريكية والفرنسية على أن استيعاب مفاهيم وأدوات وأفكار الحداثة لا يتم إلا بالارتباط بالتجربة التاريخية معها، وليس باستقبالها في آخر مراحلها من بيئات مختلفة، كما فعل العرب.

إن إلقاء النظرة السريعة على مزاج الثقافة الأوروبية قبيل البنيوية مثلاً، يطلعنا على اعتبار أن الحقيقة الفلسفية الأدبية والحقيقة العلمية التجريبية ما هما إلا وجهان لعملة واحدة، كما أن تطور الفلسفية الأوروبية كان يتبعه دائماً النظر في النص الأدبي واعتبار حقائقه المدركة ضمن استراتيجية واحدة، فالفيلسوف الغربي كان لديه دائماُ ما يقوله حول قراءة الأدب، وبتطور المذاهب الأدبية في قراءة النص، أصبح لدى اللغة حقيقة ما ترسيها في الذهن الإنساني، أو زيف ما، حسب رؤية نيتشه، بالتالي الثقل الكافي لتكون فرعاً فلسفياً متفرداً، كما حمل النص الأدبي من كونه مجرد كلمات تشير إلى معان، إلى فضاءات من الدلالات تحتمل التأويل والإبحار في المعاني وتأثيرها على المتلقي، وحرية القراءة والكتابة لدى سارتر، ثم الظاهراتية وتوسع الدلالات بناء على ثقافة القارئ المسبقة حيث يسير القارئ مع النص سيراً متوازياً يؤثر بعضهما على الآخر، انتهاء إلى النظر في النظام الكلي للنصوص الأدبية وفهمها اعتماداً على فهم غيرها.

كل هذه السنين من البحث والتفلسف وخلق المصطلحات لا يمكن للعقل العربي أن يتجاوزها ليحصل على الثمرة ويقنع نفسه بامتلاك أسرارها، فحتى على مستوى المصطلح اللغوي، لن يجد العربي ما يعينه في لغته على ترجمة أبسط المفاهيم الفلسفية التي وجدت لتصف فكرة جديدة في ذهن فيلسوف أوروبي، فلكل مصطلح تاريخه، ولكل تاريخ جغرافيته.

أما تاريخ وجغرافية فرنسا، فقد مكنها من تطوير المنهج البنيوي في تحليل النص الأدبي: الوصول للمعنى الحقيقي والواحد للنص من خلال دراسة العلاقات بين أجزاءه، باعتباره نظاماً ثابتاً له عناصره، يمكن دائماً تحليله بالطريقة ذاتها، انبهار العالم بقدرات العلم انعكس على نظرته للنص الأدبي، فقد عامل النص على أنه آلة يمكن فهم آليتها بالبحث في العلاقة التي تربط بين أجزائها، جاعلين من اللغة الثابت الذي لا يتغير، والمؤثر الوحيد والأكثر قوة في الوصول للمعنى داخل نسقه الأدبي الخاص، فلا مكان لقصدية المؤلف ولا لثقافة المتلقي ولا لتاريخية النص، وبسبب آلية البنيوية في التفكير بوساطة اللغة ومن خلال اللغة وبالاعتماد على اللغة، أصبحت اللغة تقيد فكر القارئ وتسجن عقله ضمن مطالبها.

وكما كان للبنيوية مزاجها الثقافي الذي أنتجها، كان للتفكيكية مزاجها الذي جعلها مرحب بها في أمريكا، ولكن كحال كل أيديولوجيا وتيار نقدي ينتج من مزاج ثقافي معين، كان لا يمكن تطبيقه على النصوص الأدبية بشكل عام، ذاك أن لكل ثقافة مزاجها الذي قد لا يتوافق مع ذلك المزاج المنتج للتيار النقدي، أما المزاج الثقافي المنتج للتفكيكية فكان فلسفة الشك التي طالت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، والتمرد على النظام وعلى المفاهيم التقليدية المتحجرة حول اللغة والوجود، أنتج الاستراتيجية التفكيكية في تحليل النص الأدبي، تقول التفكيكية بلانهائية التفسير للنص الادبي، وبالعلاقة الصوفية المتوحدة بين المدلول العميق للنص وبين القارئ الذي سيفهمه، حيث يشكل أهم ركن من أركان التفكيك بمعارفه السابقة ومرجعياته الأدبية والثقافية التي ستعطي دائماً للنص شيئاً جديداً ليقوله، اعتماداً على التجربة الإنسانية المشتركة بين كل من الكاتب والقارئ، نعم! نحن في طريقنا للظاهراتية، حيث يسير كل من النص والقارئ سوياً مؤثرين ببعضهما البعض، وتغدو البينصية أهم من النص، والمدلول أهم من الدلالة، والحقيقة التي تنتظر دائماً قارئاً جديداً يكشف سترها وينجب منها الدلالات الجديدة.

أعجبك المقال والمحتوى؟ ابق قريبًا من شانية

📌 توصل بتحديثات الموقع وجديد المقالات والمحتوى عبر بريدك

⚠ يمكنك إلغاء اشتراكك لاحقًا في أي وقت بضغطة زر
اشترك
نبّهني عن
guest

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

0 تعليقات
الأقدم
الأحدث الأكثر تصويتاً
Inline Feedbacks
View all comments