كآبة الوجود عبر رواية “الصرخة الصامتة” لكنزابوري أوي
1. تقديم أساسي:
تعد رواية الصرخة الصامتة، لمبدعها الكاتب الياباني الكبير “كنزابوري أوي” -الذي يعد علامة فارقة في تاريخ الأدب الياباني- من الروايات التي تتطلب تتبعا دقيقا لتفاصيلها وانتباها شديدا لأدق أحداثها، وذلك لتشابك الحاضر بالماضي واستمرار هذا الزمن الأخير بالتأثير على شخصيات الرواية التي تجد في عالم الأموات ما يلهم وما يسوء على السواء.
لا تتناطح عنزتان حول براعة البناء السردي ضمن الرواية، كما أن ترجمة سعدي يوسف، الكاتب والشاعر والمترجم العراقي مما يستحق الإشادة وكامل التقدير، لما بذله بالذات من مجهود واضح في تقريب كلمات تخص الثقافة اليابانية وحدها للقارئ العربي.
بالحديث عن سعدي يوسف، سعدي الفذ، الذي يعد أحد جهابذة الشعر العربي المعاصر، نذكر أن المنية وافته قبل مدة قصيرة خلال هاته السنة رحمه الله، وتحديدا يوم 13 يونيو 2021. لروح يوسف السلام ولأعماله المتروكة خلفه كامل الخلود.
تابع مراجع هذه الرواية عبر الضغط على الصورة:
يتضمن هذا المقال حرقًا لقصة الرواية لغرض تحليلها، كما يُمثل المكتوب فيه رأي الكاتب.
2. الحزن تيمة الرواية:
تبدأ الرواية بإيقاع حزين، يتكشف مع محاولة ميتسو، الأخ الأوسط، الإنتحار وكلبه في حفرة، إلا أن المحاولة لا يكتب لها النجاح، وما يلبث الإنتحار أن يعاود الظهور مجددا ضمن الصفحات الأولى من الرواية، من خلال الإقدام عليه من قبل صديق مقرب للبطل -كان يعاني من مرض نفسي بسبب خبطة في رأسه تعرض لها أثناء تواجده في تمرد طلابي ضد الحكومة اليابانية في فترة الستينات من القرن الماضي- بعد أن طلى أطرافه بدهان غامق ودس خيارة في شرجه!
صرخات البطل الحزينة منبعها إنجابه لطفل مريض، وسرعان ما يترك عمله كمحاضر في جامعة طوكيو وينضم لزوجته في معاقرتها للخمرة كنوع من السلوى لنسيان مرض طفليهما.
تظهر العلاقة بين الزوجين، من ذلك النوع من العلاقات التي أقل ما يقال عنها أنها باردة، وتبدو كعلاقة بين صديقين أكثر منها بين زوجين، كما تخلو من أي مظهر من مظاهر الحميمية التي تجمع في العادة زوجين ببعضهما البعض، ويكفي للاستدلال على الأمر بأن الزوجين بالكاد يستطيعان تذكر آخر مرة مارسا فيها الحب سوية، فجل ما بقي يجمعهما غير الاقتران القانوني، هو بيت المعيشة المشترك وطفل غير سوي جسديا يذكرهما بزلاتهما و بهفوات الطبيعة القاتلة!
3. ظهور الأخ المتمرد:
لِميتْسُو أخ أصغر هو تاكاشي، يذهب لاستقباله في المطار بعد عودته من أمريكا حيث كان يقيم هناك، وسرعان ما يعبر تاكاشي عن رغبته في مغادرة طوكيو و قصد قريتهما، وهو ما يستجيب له ميتسو وزوجته، ليذهبا إلى هناك رفقة صديقين آخرين لتاكشي.
يتوقع ميتسو أن يجد ما يفتقده من سلام ذاتي في القرية، غير أن تاكاشي مقتديا بأخ جده الأكبر الذي أشعل انتفاضة بالقرية قبل مائة سنة، يأخذ بتلابيب الأمور سريعا ويهيئ فلاحي القرية وشبانها للثورة على “الإمبراطور” الكوري الذي يدير سلسلة سوبر ماركت، يستغل عبرها أهل القرية، بعد أن ساهم في تغيير نمط حياة القرويين ونقلهم من الإنتاج إلى الإكتفاء بالاستهلاك بنهم.
تمرُد تاكاشي، يقابله ميتسو بتهكم، ويشكك في صحة القصص المنسوجة حول أخ الجد الأكبر ملمحا لأنه خان رفاقه في الانتفاضة، ويعمد لكشف هفوات أخيه الأصغر وتصيد زلاته، وهو ما يجعل تاكاشي يبدي عنادا أكبر للمضي قدما في مخططاته الثورية، ويطرح هذا السؤال أكثر من مرة على ميتسو : “لماذا تكرهني؟”.
4. خيوط تتكشف وحيوات تجد خلاصها:
مع تقدم الرواية، نكتشف أن حزن ميتسو أعمق بكثير مما اعتقدنا أنه حول طفله المريض فقط، إذ ينقشع الغبار عن ميتسو الذي ظل مكره بإخوته مستترا، حيث أن ميتسو هو الذي أخذ أموال العائلة بعد وفاة الوالدين والأخ “س” الذي كان مجندا بالحرب العالمية، كي يتسنى له إتمام تعليمه الجامعي.
كما يكشف تاكاشي عن حقيقة مرعبة سببت له تأزما داخليا، الواقعة التي يكشف عنها تاكاشي تعود لسنين خلت حينما كان يقيم مع أختهما المريضة في فترة مراهقته بالقرية، يصرح تاكاشي أنه مارس الجنس مع أخته مما نجم عنه حملها، وكي لا يفتضح أمره أخبرها أن تطلع عمهما أنها اغتصبت من قبل شخص غريب، فما كان من العم إلا أن أجهض جنينها، لتنتحر الأخت بعد ذلك لشعورها بالخزي، وكذا ترك تاكاشي لها عرضة لمصيرها وحيدة دون سند.
ظل سر تاكاشي يقض مضجعه لسنين، وحينما أطلع ميتسو على الأمر قرر بعدها بلحظات وضع حد لحياته بكلتا يديه عبر بندقيته، ليرحل تاكاشي بعد أن ضاجع زوجة أخيه ميتسو “ناتسومي” وقد تناهى الأمر لأخيه عبر أصدقاء الأخ الأصغر الذين عاينوا الأمر، تاركا بذلك عبئا إضافيا خلفه في حياة الزوجين، كما رحل تاكاشي دون أن يسمع جوابا من لدن ميتسو حول استفساره الدائم “لماذا تكرهني؟”.
تزخر الرواية بمواضيع ذات الاتصال بالوجودية، كالحياة والموت، لفردانية في مقابل الجماعة، الكآبة والألم الوجودي…
بعد انتحار تاكاشي تتكشف لميتسو حقيقة أسلافه، خاصة أخ جده الثائر الذي لم يفر من القرية ولم يخن رفاقه كما أشيع عنه في روايات متضاربة، بل عمد لعزل نفسه عن العالم الخارجي بقبو بيت العائلة وبقي هناك لثلاثين سنة بأيامها ولياليها وفاء للانتفاضة ووفاء لزملائه، ولما اندلعت انتفاضة أخرى سنة 1870، كان هو من حرض الفلاحين عليها، وحاول في الانتفاضة الثانية تجنب أخطاء الانتفاضة الأولى، وبالفعل نجحت في تحقيق أهدافها دون إراقة دماء كثيرة كما حدث في الانتفاضة السابقة.
مع هاته الحقيقة الجديدة، نجح ميتسو في تغيير نظرته اتجاه أسلافه، واستحالت السخرية من ماضي العائلة لاعتزاز استمد منه القوة لمسامحة ذاته أولا و تاكاشي ثانيا عبر التنقيب عن الجوانب المشرقة من حياته، كما وافق على أحد الأعمال المعروضة عليه، وأطاع رغبة زوجته ناتسومي في تجاوز أخطائهما السابقة واستئناف علاقتهما الزوجية.
تزخر الرواية بمواضيع ذات الاتصال بالوجودية، كالحياة والموت، لفردانية في مقابل الجماعة، الكآبة والألم الوجودي… وكأن الصرخة التي عنون بها كنزابوري أوي روايته هاته، هي ذاتها الصرخة الأولى التي يطلقها القادمون للحياة خلال ثوانيهم الأولى ضمن قسم الولادة، رفضا للتواجد بعالم أقل ما يقال عنه أن تائه في خطواته، محتار في قراراته، ومبغض أيما بغض لهفوة وجوده. ومادام الوجود حتما ليس بقرار أحد من المدعويين لحفلته، فلنواصل الابتسام، فحري بالقافزين من ناطحات السحاب الشاهقات، وهم يهوون للأسفل فرقعة أصابعهم بكل روية وانبساط، وهل هناك غير الحب والرقص فرحا عزاء لنا في وجودنا نحن معشر البشر!!!!!؟
تابع مراجع هذه الرواية عبر الضغط على الصورة: